فصل: ذكر ما جرى للملك العادل والأنكتار واجتماعهما:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.مع جماعة من الأمراء:

وذلك أنه لما كان التاسع والعشرون من رمضان استدعاني الملك العادل في صحبته، واحضر جماعة من الأمراء علم الدين سليمان وسابق الدين وعز الدين بن المقدم وحسام الدين بشارة، وشرح لنا ما عاد به رسوله من الأنكتار من الرسالة والكلام، وذلك أنه ذكر أنه قد أراد أن يتزوج الملك العادل بأخت الأنكتار وكان قد استصحبها معه من صقلية، فإنها كانت زوجة صاحبها وقد مات فأخذها أخوها لما اجتاز بصقلية، فاستقرت القاعدة على أن يكون مستقر ملكها بالقدس، وأن أخاها يعطيها بلاد الساحل التي بيده من عكا إلى يافا وعسقلان إلى غير ذلك ويجعلها ملكة الساحل ويجعله ملك الساحل ويكون ذلك مضافاً إلى ما في يده من البلاد والإقطاع وأنه يسلم إليه صليب الصلبوت وتكون القرى للداوية والأسبتار والحصون لهما وأسرانا تفك وكذلك أسراهم وأن الصلح يستقر على هذه القاعدة ويرحل الأنكتار طالباً بلاده في البحر وينفصل الأمر، هكذا ذكر رسول العادل عن الأنكتار. ولما عرف ذلك العادل بنى عليه أن استحضرنا عنده وحمّلنا هذه الرسالة إلى السلطان وجعلني المتكلم فيها ولجماعة يسمعون ونعرض عليه هذا الحديث فإن استصوبه ورآه مصلحة للمسلمين شهدنا عليه بالإذن في ذلك والرضا به، وإن أباه شهدنا عليه أن الحال في الصلح قد انتهى إلى هذه الغاية وأنه هو الذي رأى إبطاله، فلما مثلنا بالخدمة السلطانية عرضت عليه الحديث وتلونا عليه الرسالة بمحضر من الجماعة المذكورين، فبادر إلى الرضا بهذه القاعدة معتقداً أن الأنكتار لا يوافق على ذلك أصلا، فإن هذه منه مكر وهزل، فكررت عليه الرضا بذلك ثلاث مرات وهو يقول نعم ويفرح ويشهد على نفسه به، فلما تحققنا منه ذلك عدنا إلى الملك العادل فعرّفناه بما قال، وعرّفه الجماعة أني كررت عليه الحديث في تقييد الشهادة عليه وأنه أصرّ على الإذن في ذلك واستقرّت القاعدة عليه.
ذكر عودة الرسول إلى الأنكتار بالجواب عن هذه الرسالة:
ولما كان ثاني شوال سار ابن النحال رسولا من جانب السلطان ومن جانب الملك العادل، فلما وصل إلى مخيم العدو وأنفذ من عرف الملك بقدومه، أنفذ إليه من قال له أن الملكة عرض عليها أخوها النكاح فسقطت من ذلك وغضبت بسببه وأنكرت ذلك إنكاراً عظيماً وحلفت بدينها المغلظ من يمينها أنها لا تفعل ذلك وكيف تمكن مسلماً من غشيانها، ثم قال أخوها: إن الملك العادل يتنصر وأنا أتمم ذلك، وترك باب الكلام مفتوحا.
ولما كان خامس شوال وصل الخبر أن الأسطول الإسلامي استولى على مراكب الإفرنج وفيها مركب يعرف بالسطح، قيل أنه كان فيه أنفر وزائد على ذلك وأنه قتل منهم خلق عظيم واستبقى منهم أربعة مذكورون، وسرّ المسلمون بذلك، وضربت بشائر النصر، ونعق بوق الظفر، فلله الحمد والمنّة.
ولما كان سادس شوّال جمع السلطان أكابر الأمراء وأرباب الآراء من دولته وشاورهم كيف يصنع إن خرج العدو، وكان قد تواصلت الأخبار عنهم أنهم قد اتفقوا على الخروج إلى العسكر الإسلامي، فانفصل الرأي بين ذوي الآراء على أنهم يقيمون بمنزلهم بعد تخفيف الأثقال، فإن خرج الإفرنج كانوا على لقائهم.
وفي عشية ذلك اليوم استأمن من الإفرنج اثنان على فرسين وأخبرا أن العدو على عزم الخروج وأنهم زهاء عشرة آلاف فارس، وذكر أنهم لا يعرفون قصدهم، وهرب أسير مسلم من جانبهم وأخبر أنهم قد أظهر الخروج إلى الرملة ثم فيها يتعقون على موضع يقصدونه. ولما تحقق السلطان أمر الجاويش أن ينادي في العسكر حتى يتجهز جريدة وشدت الرايات واتفق على أنه يقف قبالة القوم إن خرجوا وسار في السابع مؤيداً منصوراً حتى أتى قبلي كنيسة الرملة ليلاً فخيّم هناك ليليه.

.ذكر خروج الإفرنج من يافا:

ولما كانت صبيحة الثامن رتب الأبطال للقتال وسلم اليزك للملك العادل وتبعه من يريد من الغزاة وكان قد وصل وجماعة من الروم يريدون الغزاة فخرجوا في جملة من خرج فلما وصلوا إلى خيام الإفرنج هجم عليهم المماليك السلطانية لقوة جأشهم وأنسهم بقتالهم وثقتهم بمراكبهم ورموا عليهم النشاب فرآهم الغزاة والواصلون من الروم فاغتروا بإقدامهم ووافقوهم في فعلهم وقاربوا عسكر العدو فلما رأى الإفرنج تلك المضايقة والمنازلة ثارت هممهم وحركتهم نخوتهم فركبوا من داخل الخيام وصاحوا صيحة الرجل الواحد وحملوا في جمع كثير فنجا من سبق به جواده وقدر في القدم نجاته وظفروا بجماعة فقتل منهم ثلاثة نفر ونقلوا خيامهم إلى بازور وأقام السلطان في تلك الليلة بمنزلته إلى الصباح.

.ذكر وفاة تقي الدين الملك المظفر:

ولما كان الحادي عشر ركب السلطان إلى جهة العدو فأسرف عليهم ثم عاد وأمرني بالإشارة إلى أخيه بأن يحضر معه علم الدين سليمان وسابق الدين وعز الدين بن المقدم فلما مثل الجماعة بين يديه أمر خادماً أن يخلي المكان عن غير الحاضرين وكنت في جملتهم وأمر بإبعاد الناس عن الخيمة ثم أخرج كتاباً من قباه وفضّه ووقف عليه وبدت دموعه وغلبه البكاء والنحيب حتى وافقناه من غير أن نعلم السبب ما هو وفي أثناء ذلك ذكر أنه يتضمن وفاة الملك المظفر فأخذ الجماعة في البكاء حتى أتوا بوظيفته ثم ذكرته لله تعالى وانتهاء قضائه وقدره فقال أستغفر الله إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ثم قال: المصلحة كتم ذلك وإخفاؤه لئلا يتصل بالعدو ونحن ننازله. ثم أحضر الطعام، فأكلوا الجماعة وانفصلوا، وكان الكتاب الواصل المتضمن نعيه هو غير الكتاب الواصل إلى حماة بنعيه في طي كتاب وصل من النائب بها، وكانت وفاته بطريق خلاط عائداً إلى ميافارقين فحمل ميتاً إلى ميافارقين ثم عملت له تربة عليها مدرسة مشهورة بأرض حماة وحمل إليها، وزرت ضريحه، وكانت وفاته تاسع عشر رمضان سنة سبع وثمانين.

.ذكر كتاب وصل من بغداد:

ولما كان الثاني عشر من شوال وصل من دمشق كتاب من النواب بها في طيه كتاب من بغداد من الديوان العزيز النبوي مجده الله يتضمن فصولاً ثلاثة: الأول الإنكار على الملك المظفر في مسيره إلى بكتمر وبولغ فيه حتى قيل إن الديوان العزيز لا يسلمه. والفصل الثاني يتضمن الإنكار على مظفر الدين في إمساك حسن بن قفجاق والأمر بإعادته إلى الكرخاني وبولغ فيه حتى قيل إن الديوان العزيز لم يأذن لغيره في سكناها. وكانت قصة حسن بن قفجاق أنه قصد أرمية إلى السلطان طغريل فإنه كان قد نزل به في معونته لما هرب من ديار العجم واستنصر به وتزوج أخته ووقع في ذهنه أنه يكون أتابكه ويملك به البلاد فقصد أرمية فقتل أهلها على ما قيل وسبى نساءهم وذراريهم وتعرض للقوافل وكان معقله الكرخاني فلما وجد السلطان طغريل قوته تركه وانصرف عنه وعاد إلى بلاده وأظهر الفساد في الأرض والتعرض للقوافل على ما قيل فاستعطفه مظفر الدين صاحب إربل حتى عاد إليه وانخرط في سلك أصحابه وقبض عليه وأنفذ إلى الديوان العزيز ذلك وفي معناه استيلاء مظفر الدين على بلاده ولعله تشفع إلى الديوان فاقتضت عاطفته ذلك في حقه. وأما الفصل الثالث فكان يتقدم بإحضار القاضي الفاضل في الديوان رسولاً لتقرر عليه قواعد ويسر إليه أسباب. هكذا كان مضمون الكتاب، وأما الجواب عنه فإن السلطان أجاب عن الفصل الأول بأنا لم نأمره بشيء من ذلك وإنما عبر ليجمع العساكر ويعود إلى الجهاد فاتفقت أسباب اقتضت ذلك وقد أمرنا بالعود. وأما الفصل الثاني فأجاب عنه بأن عرفهم حال بأن قفجاق وما تصدى له من الفساد في الأرض وأنه تقدم إلى مظفر الدين حتى يحضره معه إلى الشام فيقطعه فيه ويكون ملازماً للجهاد. وأما الفصل الثالث فإنه اعتذر عن القاضي الفاضل بأنه كثير الأمراض وقوته تضعف عن الحركة إلى العراق. فهذا اكن حاصل الجواب.

.ذكر وصول صاحب صيدا رسولاً من جانب المركيس:

ولما كان ثالث عشر شوال وصل من أخبر بوصول صاحب صيدا من جانب المركيس صاحب صور وكان قد جرى بيننا وبينه أحاديث مترددة حاصلها أنهم ينقطعون عن الإفرنج ونصرتهم ويصيرون معنا عليهم بناء على فتنة كانت جرت للمركيس مع الملوك بسبب امرأة تزوجها كانت زوجة لأخي الملك جفري وقبح نكاحها بأمر اقتضاه دينهم فاضطربت آراؤهم فيه فخاف المركيس على نفسه فأخذ زوجته وهرب تحت الليل إلى صور وأخلد إلى السلطان والاعتضاد به وكان في ذلك مصلحة للمسلمين لانقطاع المركيس عن الإفرنج فإنه كان أشدهم بأساً. وأعظمهم للحرب مراساً. وأثبتهم في التدبير أساساً. وحين اتصل خبر وصول هذا الرسول بالسلطان أمر بإجلاله واحترامه فضربت خيمة وضرب حولها شقة ووضع فيها من الطرح والفرش ما يليق بعظمائهم وملوكهم وأمر بإنزاله في الثقل يستريح ثم يجتمع به.

.ذكر واقعة الكمين الذي استشهد فيه إياس المهراني:

ولما كان سادس عشر شوال أمر السلطان الحلقة أن كمنت للعدو في بطون أودية هناك واستصحبوا جماعة من العرب فلما استقر الكمين في موضعه ظهرت العرب على جاري عادتها في مناوشتها العدو وكان العدو تخرج منه جماعة للاحتشاش والاحتطاب قريباً من مخيمة تضرب العرب وتضرب العرب عليهم فضربوا عليهم ووقع الحرب وثار الصياح وسمع العدو فركب منهم جمع من الخيالة وطلبوا جهة العرب فانهزم العرب بين أيديهم إلى جهة الكمين والعدو يتبعهم طمعاً حتى قاربوا الكمين فخرج الكمين عليهم وصاحوا بهم صيحة الرجل الواحد فانهزموا بين أيديهم نحو خيامهم واتصل الخبر بالعدو فركب منهم خلق عظيم وقصدوا نحو الوقعة والتحم القتال واشتد الأمر وقتل جمع من الطائفتين وأسر وجرح من العدو وأخذ منهم خيل كثيرة وكان سبب انفصال الحرب أن السلطان أحس بهذه الوقعة فأنفذ أمراء أخر أسلم وسيف الدين يازكج ومن يجري مجراهما ردأً للمسلمين وقال: إذا رأيتم الغلبة على الكمين فاظهروا. فلما رأوا الكثرة من جانب العدو وخرجوا بخيلهم ورجلهم ولما رأى العدو الأطلاب الإسلامية قد صوبت نحوه أعنة خيلها ولوا الأدبار نحو خيامهم والسيف يعمل في أقفيتهم حتى دخلوا الخيام. وانفصل الحرب قبيل الظهر وكان السلطان قد ركب متشوّفاً أخبار الكمين وكنت في خدمته وكان أول من دخل من الوقعة ووصل جماعة من العرب ومعهم خمس رؤوس من الخيل قد أخذوها وانفصلوا قبل انفصال الحرب وما زالت الطلائع تتواتر والبشائر تتواصل، وقتل العدو زهاء ستين نفراً وجرح من المسلمين جماعة منهم إياس المهراني وكان شجاعاً معروفاً واستأمن اثنان بخيولهما وعدتهما وعاد السلطان إلى خيمته فرحاً مسروراً معرضاً من قتل فرسه، متلطفاً بالجريح، مترجماً على الشهيد.
وفي بقية هذا اليوم وصل رسول الأنكتار إلى الملك العادل يعتبه على الكمين ويطلب الاجتماع به.

.ذكر ما جرى للملك العادل والأنكتار واجتماعهما:

ولما كان الثامن عشر سار الملك العادل إلى اليزك وضربت له قبة عظيمة وسار ومعه من الأطعمة والحلاوات والتجملات والتحف وما جرت العادة أن يحمل من ملك إلى ملك وهو إذا تجمل في ذلك لا يغلب، وسار الأنكتار إلى خيمته وحضر عنده فاحترمه احتراماً عظيماً ووصل مع الأنكتار إلى خيمته وأحضر من طعامهم الذي يختصون به ما أتحف به الملك العادل على وجه المطايبة فتناول منه الملك العادل وتناول هو وأصحابه الواصلون معه من طعام الملك العادل وتحادثا معظم ذلك النهار وتفاصلا على تواد ومحبة أكيدة.

.ذكر الرسالة التي أنفذها الأنكتار إلى السلطان:

وفي ذلك اليوم سأل الأنكتار الملك العادل أن يلتمس من السلطان الاجتماع به والمثول بين يديه. ولما وصلت هذه الرسالة شاور السلطان الجماعة في الجواب فما منهم من وقع له ما وقع للسلطان. وذلك أنه قال: الملوك إذا اجتمعوا يقبح منهم المخاصمة بعد ذلك فإذا انقطع أمر حسن الاجتماع والاجتماع لا يكون إلا لمفاضة في مهم، وأنا لا أفهم بلسانك وأنت تفهم بلساني ولا بد من ترجمان بيننا نثق أنا وأنت به فليكن ذلك الترجمان رسولاً حتى يستقر أمر وتستتب قاعدة وعند ذلك يكون الاجتماع الذي يعقبه الوداد والمحبة. قال الرسول: ولما سمع الأنكتار هذا الجواب استعظمه وعلم أنه لا يقدر على بلوغ غرض إلا بالدخول تحت المراضي السلطانية.
ولما كان التاسع عشر جلس السلطان واستحضر صاحب صيدا لسماع رسالته وكلامه فحضر وحضر معه جماعة وصلوا معه وكنت حاضر المجلس فأكرمه إكراماً عظيماً وحادثهم وقدم بين أيديهم ما جرت به العادة. ولما فرغ الطعام خلا بهم وكان حديثهم في أن السلطان يصالح المركيس صاحب صور وكان قد انضم إليه جماعة من أكابر الإفرنجية منهم صاحب صيدا وغيره من المعروفين وقد سبقت قصته وكان من شروط الصلح معه إظهار عداوة الإفرنج البحرية وكان سبب ذلك شدة خوفه منهم وواقعة وقعت له معهم بسبب الزوجة وبذل له السلطان الموافقة على شروط قصد بها الإيقاع بينهم وأن يقتل بعضهم فلما سمع السلطان حديثه وعد أن يرد عليه الجواب فيما بعد وانصرف عنه في ذلك اليوم.